دعوة الالهام

كيف يمكن لرائد الأعمال أن يجعل من التنوع مصدر ربح ونمو؟

لحسن حداد

Blog Single

يمثل التنوع مصدراً من مصادر غنى الشركة أو المؤسسة شريطة اعتماد مقاربة متجددة ومبتكرة للموارد البشرية، وتتوخى هذه المقاربة إدماج الجميع بالتعامل "المختلف" مع حاجاتهم وثقافاتهم، أو اختلافهم. ويُعتبر تدبير التنوع نوعاً من تدبير الاختلاف في ريادة الأعمال. وإذا نظر إليه رائد الأعمال بإيجابية، جنى منه أرباحاً وجعل منه وسيلة لرفع الإنتاجية وتحفيز الموارد البشرية العاملة لديه.


ولا يعني التنوع هنا وجود نساء ورجال داخل مؤسسة أو شركة معينة فحسب. يقول تريفور ويلسون صاحب كتاب "التنوع في العمل: حالة الأعمال العادلة" (Diversity at WORK: The Business Case for Equity): "يشمل التنوع الاختلافات العرقية والإثنية واللغوية والإقليمية والدينية والحالة الاجتماعية (غير متزوج، مطلق، متزوج، لديه أو لديها أولاد في سن الرضاعة، إضافة إلى القدرات الجسدية (ذوي الاحتياجات الخاصة مثلا)، وغيرها من العوامل التي تجعل رأسمال المؤسسة البشري مبنياً أساساً على الاختلاف".


تقتضي المقاربة الكلاسيكية للتنوع اعتبار الجميع سواسية: لا يهم من أنت وما هي ثقافتك، فهناك قالب معين في ريادة الأعمال ويجب على الجميع الانصهار فيه. وتضع هذه المقاربة معياراً معيناً وعلى الجميع الامتثال له دون تردد. غالباً ما يكون هذا المعيار مستمداً من الثقافة السائدة، وبهذا فهو يُقصي الكثير من أبناء الأقليات والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة، لأن أبناء الثقافة المسيطرة ينجحون في فرض معاييرهم وقيمهم ويتمكنون من النجاح في عملهم بسهولة أكثر من الآخرين. إلى جانب ذلك، تعني المساواة تحديد معايير النجاح والتفوق والإنجاز والمكافأة حسب قيم وثقافة أصحاب البشرة البيضاء في أميركا مثلاً. ما يعني أنّ كل من هو مختلف عن الأبيض عليه الاندماج والانصهار في قالب الثقافة البيضاء المسيطرة، وهذا يعني أنهم سيكونون متخلفين في الإنجاز والعمل والترقي داخل الشركة. إنّ عدم تمكنهم من فهم واستلهام عناصر الثقافة البيضاء ينتصب كعائق أمامهم ويظل امتيازاً بالنسبة لأصحاب البشرة البيضاء، خصوصاً أبناء الطبقات الميسورة.


لقد عرفت عمليات إدماج الوافدين والمهاجرين التي وقعت في بعض المجتمعات الغربية خلال القرن العشرين (خصوصا أميركا) محدوديتها وبشكل سريع، وذلك في ظل تنامي خطاب الهوية والتعدد الثقافي، الذي ظهر في الجامعات قبل أن يمتد إلى المجتمع ككل. وأُسس هذا الخطاب للتعددية كأساس لصيرورة المجتمعات وجعل الجميع يحتفل بجذوره وتاريخه وإرثه الثقافي كعناصر مكونة لشخصيته وهويته ووجوده. وتبنت ريادة الأعمال بدورها خطاب الهوية حين فهمت أنّ الإدماج لا يعني انصهار الجميع في قالب واحد، إنما اعتماد مقاربة تجعل الجميع ينخرط في عملية الإنتاج لأنهم مختلفون ويتم التعامل معهم على أساس هذا الاختلاف.


تقتضي المقاربة المتجددة للتنوع الإقرار بالاختلاف لا التعامل معه على أنه "عالة" يجب إغفالها أو طمسها، إذ يُعتبر الاختلاف أساس المجتمعات وريادة الأعمال تعكس هذا. ومنه، وجب على ريادة الأعمال أن تعامل مواردها البشرية على أساس التجاوب مع الحاجات التي تنبثق من هذا الاختلاف. وكلما كان التجاوب مع الاختلاف ثقافة سائدة داخل إدارة الأعمال كلما أحسّ العاملون بأنّ الشركة أو المؤسسة تتعامل معهم على أساس هويتهم الشخصية وثقافتهم، وبالتالي، تحفيزهم على العمل أكثر وعلى الإنجاز وخدمة العملاء، وهو ما سيعود بالربح على الشركة.


تكمن مهمة الخبراء المتخصصين في علم النفس والدراسات الثقافية وعلم الاجتماع والاقتصاد والموارد البشرية في مساعدة رواد الأعمال على جعل التنوع عماداً من أعمدة التنظيم وتدبير الموارد. ولكن تدبير تنوع الرأسمال البشري هو مسألة ريادة كذلك كما بينت ذلك كارول هارفي وجون آلارد. إذ تتمثل الريادة في اعتماد التنوع: كقيمة أساسية من القيم التي ترتكز عليها رؤية رائد الأعمال للمستقبل، ومبدأ مهيكل لاستراتيجية العمل على المدى المتوسط والبعيد، وممارسة يومية لريادة الأعمال تؤسس لسلوكيات فردية وجماعية "تحتفل" بالتعدد وتجعل الهوية المختلفة جزءاً من الهوية المركبة لرائد الأعمال. يمكن القول أنّ الرائد الناجح على مستوى إدماج التعدد هو الذي يتواصل بشكل منتظم حول هذه القضايا ويحاول فهم ثقافات العاملين كمصدر قوة للشركة أو لريادة الأعمال.


هناك من يتحدث عما يصطلح عليه "الذكاء الثقافي" وهذا مفهوم تطور لكي يقيس مدى قدرة الأفراد والمؤسسات على فهم أحدهم الآخر. وهذا لا يعني فقط فهم تاريخ ومبادئ ثقافة الآخر، إنما يعني القدرة على التحاور والتواصل مع هذا الاختلاف دون السقوط في نوع من "الغرائبية" أو "العجائبية". في مقدمة كتابهما "دليل الذكاء الثقافي: النظرية، القياس والتطبيقات" (Handbook of Cultural Intelligence: Theory Measurement and Application) يشير سون آنج ولين فان داين إلى أنّ الذكاء الثقافي هو كفاية "ما فوق ذهنية"، أي أنها تأتي عبر نوع من التطور الذهني والفكري يجعلك تصل إلى استيعاب قيم الآخر دون السقوط في تبنيها أو جعلها جزءاً من هويتك. تأتي هذه العلاقة الجدلية مع الآخر كثمرة عمل صبور للفهم، والاستيعاب والتمثل مع أخذ مسافة تجعلك تتبنى الاختلاف دون السقوط في تغيير هويتك ولباس هوية الآخر.


يقول ديرالد وينج سو في كتابه "الشغل الاجتماعي المتعدد ثقافياً" (Multicultural Social Work Practice) أنّ فهم التنوع والاختلاف يبدأ من العمل على الذات وأفكارها وتصوراتها وتمثّلاتها للآخر. وهذه كفاية في حد ذاتها: فالقدرة على القيام بنقد ذاتي من أجل إعادة النظر في مواقف الذات من الآخر، سواء كان الآخر مختلفاً على مستوى النوع الاجتماعي أو على مستوى  البشرة أو الانتماء الطبقي أو الإثني أو غيره من اختلافات، يتبع ذلك محاولة فهم الرؤى الثقافية للعاملين أو العملاء، أي ما هي القيم والمفاهيم الثقافية والهوياتية التي تحدد سلوكهم الإنتاجي أو التجاري. بعد ذلك تأتي القدرة على فهم القوى التي إما ستدعم الانتقال إلى التدبير الإيجابي للتنوع أو تلك التي ستحول دون ذلك. عندها يكون بناء الاستراتيجيات أسهل، لأنه سيتمحور حول تذليل العقبات وتقوية العوامل المحفزة والداعمة.


لا تُعتبر مسألة الإقرار بالتنوع مسألة أخلاق أو عدالة، ولكنها مسألة إنتاج وخدمة عملاء وتحقيق للأرباح. وتقوم المقاربة المندمجة التي تقر بالاختلاف كأساس وتتعامل مع الموارد البشرية على أساس تلبية الحاجات الفردية والجماعية التي تنبثق من هذا الاختلاف بخلق اعتراف للعاملين بهويتهم وتنوعهم، وإقرار بأنّ هذا التنوع هو جزء من هويتهم. ويخلق الارتياح الناتج عن الاعتراف بهوية العاملين المختلفة تحفيزاً متنامياً لدى هؤلاء، وخدمة أفضل للعملاء، ومجهوداً أكبر لتنمية الإنتاج، وكل هذا سيعود بالفضل على الشركة وعلى رواد الأعمال.


تتنوع ريادة الأعمال العربية الآن أكثر من أي وقت مضى. فبالإضافة إلى ولوج المرأة لسوق العمل، هناك عمالة متنوعة تأتي من جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا ومن أوروبا الشرقية ومن الدول العربية للعمل في دول الخليج، وهناك عمالة تأتي من جنوب أوروبا ومن أفريقيا الغربية للعمل في بعض دول شمال أفريقيا. وتُعتبر العمالة في الدول العربية متنوعة شيئاً ما، من الناحية الدينية والإثنية واللغوية والثقافية، كما أنّ التطور السوسيولوجي جعل الكثير من الأسر تسيّرها إما المرأة أو الرجل لوحدهما، وجعل الكثير من الشباب العرب يعيش عازباً، كما أنّ نمو الأمل في الحياة جعل الكثير من الشباب في الدول العربية يعيلون آباءهم بالإضافة إلى الاعتناء بالأولاد (جيل الساندويش كما يسميهم علماء الاجتماع الأميركان).


كل هذا يعني أنه آن الأوان لمشاريع الأعمال العربية اعتماد سياسة تدبير التنوع بطريقة متجددة تضمن انخراطاً مستديماً لكل العاملين في دورة الإنتاج وتحقيق الأرباح. وهذا يقتضي الإقرار بالاختلاف كأساس، وسن استراتيجية تدمج حاجات المجموعات المتنوعة ضمن تدبير الموارد في مشاريع الأعمال، ودعم نمو ثقافة التنوع داخل ريادة الأعمال كشرط من شروط جودة الحياة فيها، والاستفادة من التنوع كرأسمال لامادي مهم لبناء ريادة الأعمال المتعلمة (كما رأينا ذلك من قبل). نعم، على ريادة الأعمال العربية أن تتوخى الحذر، وتأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والسوسيولوجية للبيئة التي تعمل فيها، ولكن يتوجب عليها كذلك معرفة أنّ مقاربة التنوع لها فائدة كبيرة في تحفيز العاملين والرفع من الإنتاجية.